Tuesday, February 21, 2012

للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق



للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق


ابن القيم





قال الإمام ابن القيم رحمه الله في مدارج السالكين:
وههنا للعبد أحد عشر مشهداً فيما يصيبه من أذى الخلق وجنايتهم عليه:

المشهدالأول: مشهد القدر:

وأن ما جرى عليه بمشيئة الله وقضائه وقدره، فيراه كالتأذي بالحر والبرد والمرض والألم وهبوب الرياح وانقطاع الأمطار، فإن الكل أوجبته مشيئة الله، فما شاء الله كان ووجب وجوده، وما لم يشأ لم يكن وامتنع وجوده، وإذا شهد هذا، استراح وعلم أنه كائن لا محالة فما للجزع منه وجه وهو كالجزع من الحر والبرد والمرض والموت.

المشهد الثاني:مشهد الصبر

فيشهده ويشهد وجوبه وحسن عاقبته وجزاء أهله وما يترتب عليه من الغبطة والسرور ويخلصه من ندامة المقابلة والانتقام، فما انتقم أحد لنفسه قط إلا أعقبه ذلك ندامة، وعلم أنه إن لم يصبر اختياراً على هذا وهو محمود، صبر اضطراراً على أكبر منه وهو مذموم.

المشهد الثالث:مشهدالعفو والصفح والحلم

فإنه متى شهد ذلك وفضله وحلاوته وعزته، لم يعدل عنه إلالعشي في بصيرته فإنه ما زاد الله عبداً بعفوٍ إلا عزاً كما صح ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم وعلم بالتجربة والوجود وما انتقم أحد لنفسه إلا ذل.
هذا وفي الصفح والعفو والحلم من الحلاوة والطمأنينة والسكينة وشرف النفس وعزها ورفعتها عن تشفيها بالانتقام، ما ليس شيء منه في المقابلة والانتقام.

المشهدالرابع:مشهد الرضى

وهو فوق مشهد العفو والصفح وهذا لا يكون إلا للنفوس المطمئنة، سيّما إن كان ما أصيبت به سببه القيام لله، فإذا كان ما أصيب به في اللهو في مرضاته ومحبته، رضيت بما نالها في الله.
وهذا شأن كل محب صادق يرضى بمايناله في رضى محبوبه من المكاره، ومتى تسخّط به وتشكّى منه كان ذلك دليلاً على كذبه في محبته، والواقع شاهد بذلك، والمحب الصادق كما قيل:
من أجلك جعلت خدّي أرضاً......للشامت والحسود حتى ترضى
ومن لم يرض بما يصيبه في سبيل محبوبه فلينزل عن درجة المحبة وليتأخر فليس من ذي الشأن.

المشهد الخامس:مشهدالإحسان

وهو أرفع مما قبله وهو أن يقابل إساءة المسيء إليه بالإحسان فيحسن إليه كلما أساء هو إليه، ويهون هذا عليه علمه بأنه قد ربح عليه وأنه قد أهدى إليه حسناته ومحاها من صحيفته وأثبتها في صحيفة من أساء إليه، فينبغي لك أن تشكره وتحسن إليه بما لا نسبة له إلى ما أحسن به إليك.
وههنا ينفع استحضار مسألة اقتضاء الهبة الثواب، وهذا المسكين قد وهبك حسناته فإن كنت من أهل الكرم فأثبه عليها لتثبت الهبةوتأمن رجوع الواهب فيها، وفي هذا حكايات معروفة عن أرباب المكارم وأهل العزائم .
ويهوّنه عليك أيضاً: علمك بأن الجزاء من جنس العمل فإن كان هذا عملك في إساءة المخلوق إليك عفوت عنه وأحسنت إليه مع حاجتك وضعفك وفقرك وذلّك، فهكذا يفعل المحسن القادر العزيز الغني بك في إساءتك، يقابلها بما قابلت به إساءة عبده إليك، فهذالابد منه، وشاهده في السنة من وجوه كثيرة لمن تأملها.

المشهد السادس:مشهد السلامة وبرد القلب

وهذا مشهد شريف جداً لمن عرفه وذاق حلاوته وهو أن لايشتغل قلبه وسره بما ناله من الأذى وطلب الوصول إلى درك ثأره وشفاء نفسه، بل يفرغ قلبه من ذلك ويرى أن سلامته وبرده وخلوه منه أنفع له وألذ وأطيب وأعون على مصالحه،فإن القلب إذا اشتغل بشيء فاته ما هو أهم عنده وخير له منه، فيكون بذلك مغبوناً،والرشيد لا يرضى بذلك ويرى أنه من تصرفات السفيه، فأين سلامة القلب من امتلائه بالغل والوساوس وإعمال الفكر في إدراك الانتقام؟!

المشهد السابع:مشهدالأمن

فإنه إذا ترك المقابلة والانتقام أمِن ما هو شر من ذلك، وإذا انتقم واقعه الخوف ولا بد، فإن ذلك يزرع العداوة، والعاقل لا يأمن عدوه ولو كان حقيراً فكم من حقير أردى عدوه الكبير، فإذا غفر ولم ينتقم ولم يقابل، أمِن من تولد العداوة أوزيادتها ولابد أن عفوه وحلمه وصفحه يكسر عنه شوكة عدوه ويكف من جزعه بعكس الانتقام،والواقع شاهد بذلك أيضاً.

المشهد الثامن:مشهد الجهاد

وهو أن يشهد تولد أذى الناس له من جهاده في سبيل الله وأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر وإقامةدين الله وإعلاء كلماته.
وصاحب هذا المقام قد اشترى الله منه نفسه وماله وعرضه بأعظم الثمن فإن أراد أن يسلم إليه الثمن فليسلم هو السلعة ليستحق ثمنها، فلا حق له على من آذاه ولا شيء له قبله إن كان قد رضي بعقد هذا التبايع فإنه قد وجب أجره على الله.
وهذا ثابت بالنص وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ولهذا منع النبي صلى الله عليه وسلم المهاجرين من سكنى مكة -أعزها الله- ولم يرد على أحد منهم داره ولا ماله الذي أخذه الكفار ولم يضمنهم دية من قتلوه في سبيل الله.
ولما عزم الصديق رضي الله عنه على تضمين أهل الردة ما أتلفوه من نفوس المسلمين وأموالهم قال له عمر بن الخطاب رضي الله عنه بمشهد من الصحابة رضي الله عنهم: تلك دماء وأموال ذهبت في اللهوأجورها على الله ولا دية لشهيد فأصفق الصحابة على قول عمر ووافقه عليه الصديق.
فمن قام لله حتى أوذي في الله: حرم الله عليه الانتقام كما قال لقمان لابنه:{يابُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاَةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَآ أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأُمُورِ} [لقمان:17]

المشهد التاسع: مشهد النعمة

وذلك من وجوه أحدها: أن يشهد نعمة الله عليه في أن جعله مظلوماً يترقب النصر ولم يجعله ظالماً يترقب المقت والأخذ، فلو خيّر العاقل بين الحالتين ولابد من إحداهما، لاختارأن يكون مظلوماً.
ومنها: أن يشهد نعمة الله في التكفير بذلك من خطاياه فإنه ماأصاب المؤمن هم ولا غم ولا أذى إلا كفر الله به من خطاياه، فذلك في الحقيقة دواءيستخرج به منه داء الخطايا والذنوب ومن رضي أن يلقى الله بأدوائه كلها وأسقامه ولم يداوه في الدنيا بدواء يوجب له الشفاء: فهو مغبون سفيه؛ فأذى الخلق لك كالدواءالكريه من الطبيب المشفق عليك فلا تنظر إلى مرارة الدواء وكراهته ومن كان على يديه وانظر إلى شفقة الطبيب الذي ركبه لك وبعثه إليك على يدي من نفعك بمضرته.
ومنها: أن يشهد كون تلك البلية أهون وأسهل من غيرها فإنه ما من محنة إلا وفوقها ما هو أقوىمنها وأمرّ، فإن لم يكن فوقها محنة في البدن والمال فلينظر إلى سلامة دينه وإسلامه وتوحيده وأن كل مصيبة دون مصيبة الدين فهينة وأنها في الحقيقة نعمة والمصيبةالحقيقية مصيبة الدين.
ومنها: توفية أجرها وثوابها يوم الفقر والفاقة وفي بعض الآثار: أنه يتمنى أناس يوم القيامة لو أن جلودهم كانت تقرض بالمقاريض لما يرون من ثواب أهل البلاء.
هذا وإن العبد ليشتد فرحه يوم القيامة بما له قِبَل الناس من الحقوق في المال والنفس والعرض، فالعاقل يعد هذا ذخراً ليوم الفقر والفاقة ولايبطله بالانتقام الذي لا يجدي عليه شيئاً.

المشهد العاشر:مشهد الأسوة

وهو مشهد شريف لطيف جداً، فإن العاقل اللبيب يرضى أن يكون له أسوة برسل الله وأنبيائه وأوليائه وخاصته من خلقه فإنهم أشد الخلق امتحاناً بالناس وأذى الناس إليهم أسرع من السيل في الحدور. ويكفي تدبر قصص الأنبياء عليهم السلام مع أممهم وشأن نبينا صلى الله عليه وسلم وأذى أعدائه له بما لم يؤذه من قبله.
وقد قال له ورقة بن نوفل: لتُكذّبن ولتُخرجن ولتُؤذين وقال له: ما جاء أحد بمثل ما جئت به إلاعودي، وهذا مستمر في ورثته كما كان في مورثهم صلى الله عليه وسلم.
أفلا يرضى العبد أن يكون له أسوة بخيار خلق الله وخواص عباده: الأمثل فالأمثل ومن أحب معرفةذلك فليقف على محن العلماء وأذى الجهّال لهم وقد صنف في ذلك ابن عبدالبر كتاباً سماه محن العلماء.

المشهد الحادي عشر:مشهد التوحيد


وهو أجلّ المشاهدوأرفعها، فإذا امتلأ قلبه بمحبة الله والإخلاص له ومعاملته وإيثار مرضاته والتقرب إليه وقرة العين به والأنس به واطمأن إليه وسكن إليه واشتاق إلى لقائه واتخذه ولياً دون من سواه بحيث فوّض إليه أموره كلها ورضي به وبأقضيته وفنى بحبه وخوفه ورجائه وذكره والتوكل عليه عن كل ما سواه: فإنه لا يبقى في قلبه متسع لشهود أذى الناس له البتة، فضلاً عن أن يشتغل قلبه وفكره وسره بتطلب الانتقام والمقابلة.

فهذالا يكون إلا من قلب ليس فيه ما يغنيه عن ذلك ويعوضه منه، فهو قلب جائع غير شبعان فإذا رأى أي طعام رآه هفت إليه نوازعه وانبعثت إليه دواعيه، وأما من امتلأ قلبه بأعلى الأغذية وأشرفها: فإنه لا يلتفت إلى ما دونها وذلك فضل الله يؤتيه من يشاءوالله ذو الفضل العظيم.

No comments:

Post a Comment