Sunday, January 27, 2013

مساهمات المسلمين في علم الفلك



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

مساهمات المسلمين
في علم الفلك



العالم العلوي يشتمل على كثير من الكواكب والنجوم، يقول عنها العلماء العارفون بمراصد النجوم، إنها متباينة الأوصاف من جهات متعددة منها الصغير بالنسبة إلى الكبير ومنها القريب منا بالقياس إلى ما هو بعيد جدا عنا، ومنها المجموعة الشمسية أو الكواكب السيار، ومن هذه الأجرام السماوية ما هو مضيء حار كالشمس وما هو مكتسب نوره من غيره كالقمر إلى غير ذلك من وجوه التفاوت. قال تعالى: (وَآيَةٌ لَّهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ ، وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العَزِيزِ العَلِيمِ ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ القَدِيمِ ، لاَ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ القَمَرَ وَلاَ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) (سورة يس آية: 37- 40). ففي هذه الآيات يرشد القرآن الكريم إلى النظر في الكون وخاصة الأجرام السماوية وما فيها من نظام بديع رائع كل في فلكه يسير حسب نظم دقيقة ثابتة. ومشهد قدوم الليل والنور يختفي والظلمة تغشي. مشهد مكرر يراه الناس في كل بقعة في خلال أربع وعشرين ساعة. وهو مع تكراره اليومي عجيبة تدعو إلى التأمل والتفكير، والتعبير القرآني عن هذه الظاهرة في هذا الموضع تعبير فريد فهو يصور النهار متلبسا بالليل ثم ينزع الله النهار من الليل فإذا هم مظلمون ولعلنا ندرك شيئاً من سر هذا التعبير الفريد: حين نتصور الأمر على حقيقته، فالأرض الكروية في دورتها حول نفسها في مواجهة الشمس تمر كل نقطة منها بالشمس فإذا هذه النقطة نهار حتى إذا دارت الأرض انزوت تلك النقطة عن الشمس انسلخ منها ولفها الظلام وهكذا تتوالى هذه الظاهرة على كل نقطة بانتظام وكأنما نور النهار ينزع أو يسلخ فيحل محله الظلام فهو تعبير مصور للحقيقة الكونية أدق تصوير. والشمس تجري لمستقر لها، وكان المظنون أنها ثابتة في موضعها الذي تدور فيه حول نفسها ولكن عرف أخيرا أنها ليست مستقرة في مكانها إنما هي تجرى فعلاً، تجرى في اتجاه واحد في الفضاء الكوني الهائل بسرعة حسبها الفلكيون باثني عشر ميلا في الثانية. والقمر يسير في منازل وهى ثمانية وعشرون منزلاً، ينزل واحد منها ليلة ثم يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر فإذا كان في آخر منازله دق وتقوس، ولكل نجم أو كوكب فلك أو مدار لا يتجاوزه في جريانه أو دورانه، والمسافات بين النجوم والكواكب مسافات هائلة، وحركة هذه الأجرام في الفضاء الهائل أشبه بحركة السفين في الخضم الفسيح فهي مع ضخامتها لا تزيد على أن تكون نقطاً سابحة في ذلك الفضاء المرهوب.

لهذا وغيره لم يألوا علماء الحضارة الإسلامية جهدا في البحث عن الفلك، والفلك: مجرى الكواكب. وسمي بذلك لاستدارته وكان علم الفلك في الأول مختلطاً بأمور التنجيم، والحظ، والمستقبل، والحرب، والسلم، ولم ينق من شوائبه وأخلاطه إلا في ظل الحضارة الإسلامية التي صقلت العقول وفتقت الأذ،هان وكانت بداية تنقية علم الفلك على يد الكندي، والفارابي، وابن حزم وغيرهم

فنرىأبا يوسف يعقوب بن إسحاق الكندي الذي ولد في أواخر القرن الثاني الهجري يبدي إنكاره لأعمال التنجيم، وما يكون من صلة بين الكواكب والناس تؤثر في حياتهم أو توجههم وجهة الخير أو الشر.

والعالم الكبير الفارابي الذي ولد في القرن الرابع الهجري. لا يعتمد إلا على اليقينيات التي لا تقبل الشك ولهذا يقول عنه المستشرق (دي بور) إن الفارابي: يرى أن هناك معرفة يقينية إلى أكمل الدرجات نجدها في علم النجوم التعليمي أما دراسة خصائص الأفلاك وفعلها في الأرض فلا نظفر منها إلا بمعرفة ظنية ودعاوى المنجمين ونبواتهم لا تستحق إلا الشك والارتياب.

أما أبو محمد بن حزم عالم الأندلس، والمفكر الإسلامي في القرن الرابع الهجري فرأيه في ذلك واضح وصريح يقول: زعم قول: أن الفلك والنجوم تعقل وأنها تسمع وترى، وهذه دعاوى باطلة بالجملة بلا برهان وصحة الحكم بأن النجوم لا تعقل أصلاً، وأن حركتها أبدأ على رتبة واحدة لا تتبدل عنها. وكان كثير من خلفاء الدولة العباسية يهتمون بهذا اللون ولهذا عملوا على تشجيع القائمين عليه، وكان أبو جعفر المنصور من المهتمين بهذا العلم، وشغف المنصور به دفع المشتغلين إلى الإجادة فيه، وترجمة ما ورد باللغات الأجنبية إلى اللغة العربية.

ولما كان العلماء المسلمون أكثر الناس بحثاً وعمقاً وتفكيراً فقد كانوا المؤسسين لعلم الفلك بمعناه الصحيح، ولهم الفضل في تطهيره من أدران التنجيم. وفى عصر المأمون قام أبناء موسى بن شاكر محمد وأحمد وحسن باكتشافات دقيقة لا تكاد تفترق في دقتها عن أحدث اكتشافات أوروبا ولاسيما فيما يتعلق بإيجاد معدل دائرة الفلك الذى تجري فيه الشمس وغيرها من الأجرام وحققوا ميل البروج بدقة تدعو إلى العجب ولاحظوا لأول مرة التغير في ارتفاع القمر. كما رصدوا بدقة عجيبة مبادرة الاعتدالين وحركة الأوج الشمسي وحسبوا حجم الأرض من قياس درجة على شاطئ البحر الأحمر في الوقت الذي كانت فيه أوروبا تؤكد أن الأرض مسطحة.

ومن العلماء المشهورين في الفلك: سعد بن علي، ويحيي بن أبي منصور وخالد بن عبدالملك فقد أعدوا الجداول المحققة ومن أعمالهم المأثورة أنهم رصدوا الاعتدال الربيعي والخريفي والخسوف وشبح المذنبات وغير ذلك من الظواهر الطبيعية.

ومن علماء الفلك البارزين أحمد النهاوندي وهو أقدم فلكي العرب وقد كتب مما رصده جدولاً فلكياً اسمه المستعمل والعلامة ما شاء الله قد ألف عدة رسائل في الكرة ذات الحلق وطبيعة الأجرام السماوية وحركتها. وأبو إسحاق إبراهيم بن حبيب الفزاري قد وضع كتاب الزيج جداول الهيئة كما ألف كتابين في العمل بالإسطرلابات ذات الحلق المسطح وهو أول من عمل إسطرلابا في الإسلام وإسطرلاب : بيت الإبرة كلمة تطلق على عدة آلات فلكية وكان الإغريق قد عرفوا أنواعاً مبسطة منه لم تبلغ حد الإتقان الذي عرفه العرب والمسلمون. فالمسلمون أضافوا إليه وحسنوه

وهذا الشاعر العربي الفنان كشاجم يسجل هذا الحدث الحضاري فيصف الإسطرلاب وصفا بارعاً دقيقاً فيقول. ومستدير كجرم البدر مسطوح صلب يدار على قطب يثبته ملء البنان وقد أوفت صفائحه نعي به السبعة الأفلاك محدقة عن طائح الأبراج هيئته وإن مضت ساعة أو بعض ثانية وإن تعرض في وقت يقدره مميز في قياسات الضلوع به له على الظهر عينا حكمة بهما وفى الدواوين من أشكاله حكم لا يستقل لما فيها بمعرفة حتى ترى الغيب فيه وهو منغلق نتيجة الذهن والتفكير صوره عن كل رافعة الأشكال مصفوح تمثال طرف بشكر الحذق مكبوح على الأقاليم من أقطارها الفيح بالماء والنار وأرضين والريح بالشمس طورا وطورا بالمصابيح عرفت ذاك بعلم فيه مشروح لك التشكك جلاه بتصحيح بين المتشائم منها والمناجيح يحوى الضياء وتنجيه من اللوح تنقح العقل فيها أي تنقيح إلا الحصيف اللطيف الحس والروح الأبواب عمن سواه جد مفتوح ذوو العقول الصحيحات المراجيح وهكذا استطاع الشاعر العربي كشاجم أن يصور الإسطرلاب بالريشة أدق تصوير ويبرز في كلمات حية دقة عمله الفلكي.

واخترع أبو الحسن أحد علماء الفلك آلة للرصد تليسكوب ووصف بأنه أنبوب مثبت في طرفيه عدسات وقد هذبت هذه الأنابيب واستعملت فيما بعد في مراصد المراغة والقاهرة فنجحت نجاحاً عظيماً. وأبو الريحان محمد بن أحمد البيروني الذي ولد في القرن الرابع الهجري في ضاحية من ضواحي خوارزم يدرس الفلك والأجرام السماوية ويتدرب عملياً على رصدها ومتابعتها وكان من نتيجة هذا الاتجاه مؤلفات عديدة ونظريات جديدة لاستخراج محيط الأرض واستخدم من أجل ذلك معادلة لحساب نصف قطر الأرض سميت بعد ذلك في أوروبا قاعدة البيروني وقد أخرج البيروني بعد تأليف الإسطرلاب تلك المعادلة من القوة إلى الفعل مما جعل المستشرق الإيطالي طللينو الذي اهتم بمساهمات المسلمين في ميدان الفلك يقول إن قياس البيروني لمحيط الأرض من الأعمال العلمية المأثورة للعرب. ويقول العالم الألماني أدوارد سخاو: إن البيروني أعظم عقلية عرفها التاريخ. والمستشرق الإيطالي نيللينو قد وضع كتاباً بعنوان: علم الفلك وتاريخه عند العرب في القرون الوسطي أشاد فيه بمآثر المسلمين في علم الفلك ويذكر أن قياس البيروني لمحيط الأرض أول قياس حقيقي أجرى كله مباشرة مع كل ما اقتضته تلك المساحة من المدة الطويلة والصعبة والمشقة واشتراك جماعة من الفلكيين والمساحين في العمل ولابد لنا من اعتبار ذلك القياس من أعمال العرب العلمية.

وأبو عبد الله البتاني الذي ولد في بتان من ناحية حران في القرن الثالث الهجري كان له باع طويل في هيئة الأفلاك وحساب النجوم ومن أقدر علماء الرصد وله مؤلفات عدة أهمها: زيج الصابي وهو أصح الزياج وقد ترجم إلى اللاتينية طبع بروما سنة 1799مسيحي وفيه بعض صور قيمة. وأشتهر في الفلك عمر الخيام وله مؤلفات جيدة حتى إن السلطان ملك شاه دعاه لمساعدته في تعديل التقويم السنوي. ولم يقف المسلمون عند هذا الحد من الجانب الحضاري. بل أقاموا في معظم العواصم الإسلامية مراصد فلكية وكان المأمون أول من أشار باستعمال الآلات في رصد الكواكب. وأمر المأمون بإقامة مرصدين أحدهما: في أعلى قمة جبل قيسون في دمشق وثانيهما: في الشماسية ببغداد وأنشأ الفاطميون في مصر المرصد الحاكمى على جبل المقطم وكان مرصد المراغة الذي بناه نصير الدين الطوسي من أشهر المراصد وأكبرها وقد امتاز بدقة آلاته وتفوق المشتغلين به. وأقيمت مراصد أخرى كثيرة، وهذا يدل على طول باع المسلمين في تنظيم علم الفلك ويدل أيضاً على سعة الأفق العلمي الذي تميزوا به. والذي نريد أن نسجله أن العقلية العربية الإسلامية قد استطاعت في فترة وجيزة عندما تهيأت لها العوامل الفعالة أن تجدد، وتولد، وتخترع، وتبرز، وتفرض شخصيتها على غيرها في نطاق سوي يجعلها مماشية لأرقي ما يتصور الناس من حضارات. ذلك لأن العقل الإسلامي أساساً ثابتا غنياً ثرياً يستطيع أن ينطلق إلى آفاق بعيدة وأن يحلق في سموات المعرفة الرفيعة.

وقد استفادت أوروبا من مؤلفات العلماء المسلمين أمثال الكندي وأبى زيد البلخي والفزاري وأحمد النهاوندي وما شاء الله وابن السمح وأبناء موسى بن شاكر والبوزجاني والبتاني وغيرهم من عباقرة الفلك في الإسلام. ويشير العالم الأوروبي لالاند إلى أن البتاني من العشرين فلكيا المشهورين في العالم كله ويعده كثير من علماء أوروبا في المحل الأول بين علماء الهيئة في كل العصور. ويقول أحد الثقاة: إن للبتاني من الشأن عند العرب ما لبطليموس عند اليونان، وقد ترجمت مؤلفاته الفلكية إلى اللاتينية واعتمد عليها العلماء في أوروبا ولا تزال مؤلفات علماء الفلك المسلمين بألفاظها في كل اللغات. وهذا يكفي في الدلالة على مدى إسهام المسلمين في هذا العلم ومدى ما انتفعت به أوروبا، فإن نصف الأسماء والمصطلحات هي من اختراع المسلمين واستنباطاتهم. والناظر إلى السماء المليئة بالكواكب والأبراج إذا أراد أن يتكلم بأية لغة فلا بد له من أن يستعمل الألفاظ العربية فالعقرب ACRAB والجدي ALGEDI والطائر QLTAIR وابط الجوزاء BETELGEUSE والسمت ZEMITH وما أكثر أسماء الأعلام التي تحفل بها المصادر والمراجع للعلماء المسلمين الذين أسهموا في علوم الفلك. وهي ليست أسماء أعلام فحسب ولكنها علامات مضيئة على طريق الحضارة التي تتقدم إليها بثبات.

No comments:

Post a Comment