الجسد
كلنا من أصل واحد ..
من خامة واحدة .
و لكن لكل منا فرديته الخاصة به .
و الفرق بين مخلوق و مخلوق ليس مج رد فرق كمي في الذرات , و إنما
هناك فرق أكبر و أعقد في العلاقات بين تلك الذرات و في كيفيات الترابط
بينها .
و نعلم الآن من أمر توليف الجينات الوراثية في الخلية الأولى أن جميع
الأجنة الآدمية يتم توليفها من أكثر من عشرين حرف ا كيميائي ا من بروتين
كما تتألف جميع الكتب و المؤلفات من الحروف الأبجدية , RNA و DNA
فيكون لكل كتاب روحه و شخصيته و نوعيته كمخلوق مستقل متفرد مع أن
جميع الكتب مؤلفة من الحروف نفسها .
و يبلغ هذا التفرد لدرجة أن ينفرد كل واحد ببصمة خاصة مختلفة . لا
تتشابه بصمتان لاثنين و لو كانا توأمين منذ بدء الخليقة إلى الآن برغم آلاف
آلاف و ملايين ملايين الملايين من الأفراد .
و نعلم الآن أن لكل جسد شفرة كيميائية خاصة به بحيث يصبح من
العسير و أحيان ا من المستحيل ترقيع جس د بقطع ة من جسد آخر .. فما
يلبث أن يرفض الجسد الرقعة الغريبة كما لو كانت ميكروب ا أو جسم ا أجنبي ا
أو استعمار ا و هذه هي كبرى المشكلات في جراحات الترقيع و نقل
الأعضاء .
و أطول مدة عاشها قلب منقول كانت عشرين شهر ا و تحت مطر مستمر
من حقن التخدير و الأقراص المضادة للحساسية لمنع الجسد من رفض
العضو الغريب .
و معنى هذا أن الفردية و التفرد حقيقة جوهرية يشهد بها العلم .. و هي
حقيقة لم التفت إليها في بداية تطوري الفكري .. و اعتقدت بأن الجوهري
و الباقي هو المجتمع و ليس الفرد .. الإنسان و ليس فلان ا , و الحياة و
ليس الأحياء .. الوجود لا الموجودات , الكل و ليس الآحاد .
و هذا أثر من آثار فلسفة وحدة الوجود الهندية القائلة إن الوجود هو الله و
و المايا هي الوهم الزائل . و MAYA هو الباقي أما جميع الموجودات فهي
كل فرد مصيره إلى فناء حقيقي لا بعث بعده , و اعتقدت بأن خلود الفرد
هو بقدر ما يترك لأولاده من توجيه و تربية و علوم و معارف .
أما هو ذاته فإنه ينتهي إلى التراب إلى غير عودة .
نصيبنا من الخلود هو ما نضيفه إلى وعاء الكل .
أما شخوصنا و أفردنا فمصيرها إلى العدم .
و ما الشخصية ؟!
لم أفهم من الشخصية قي البداية أكثر من أنها ردود فعل ظرفية على
مواقف مؤقتة . و بالتالي حينما تنتهي هذه الظروف و تتغ ير الأوقات لا يبقى
من الشخصية شيء .. و مآلها أن تتفكك بالشيخوخة نتيجة تفكك ألياف
الترابط الموجودة بالمخ و حين تفسد الأعصاب و تفنى بالموت تفنى الذات
الخاصة بها .
اعتقدت أن الشخصية ليست سوى انفصال محدد لصفات معينة بتأثير
تجارب حية و أفعال منعكسة عصبية .. بعضها موروث في شكل غرائز و
بعضها مكتسب عن طريق الممارسة الحسية .. و هذه الممارسة تسجل
في المخ و تنطبع على الذاكرة . فإذا انتهى المخ و تعفنت خلايا الذاكرة فلا
محل لافتراض بقاء آخر روحاني لهذا الترابط المادي البحت .
بهذا الفهم المادي المسطح تصورت الإنسان في البداية , و كنت أقول
لنفسي إن الشخصية ليست شيئ ا واحد ا و إنما هي سيل من الشخصيات
المختلفة لا تنقطع عن الجريان .. فشخصيتي في سن العاشرة غيرها في
سن العشرين غيرها في سن الثلاثين .. و في كل لحظة هناك شيء
يضاف إلى نفسي و شيء ينقص منها .. فأية واحدة من هذه النفوس
سوف تبعث و تعاقب ؟
و هؤلاء المصابون بانقسام الشخصية أيهما سوف يذهب إلى العالم الآخر
الدكتور جيكل أم مستر هايد ؟
و نسيت بهذا التلاعب اللفظي الحقيقة الأولية البسيطة أننا حينما نطبع
من الكتاب طبعة ثانية فإننا لا نطبع صفح ة أو فص لا , و إنما نطبعه كله في
أصوله ليصدر ك له في أصوله .
و هكذا يكون بعث الروح ككل بكل فصولها و أصولها كما تنبت البذرة من
ظلام الأرض حاوية لكل إمكانيات الفروع و الأوراق و الثمار .
و لكن النظرة المادية التي تميل بطبيعتها إلى التحليل و التشريح و
التقطيع كانت هي الغالبة طول الوقت و لهذا كانت تغيب عني دائم ا صورة
الأمور في كليتها و كنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرحت الجسد
إذ لا فرق بين الاثنين
الروح هي البدن
و العقل هو المخ
و الشخصية هي ردود الفعل و مجموع الأفعال المنعكسة
و العاطفة في نهاية الأمر جوع جسماني .
و نقف الآن وقفة طويلة لنسأل : هل صحيح أن النفس ما هي إلا مجرد
حوافز الجوع و الجنس و مجموعة الاستشعارات التي يدرك بها الجسد ما
يحتاجه ؟
لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت فما هكذا حقيقة النفس و لا
حقيقة الإنسان .. و أعود إلى صفحات كتاب لغز الموت و لغز الحياة حيث
ناقشت الموضوع بالتفصيل .
إن الإنسان ليضحي بلقمته و بيته و فراشه الدافئ في سبيل أهداف و
مثل و غايات شديدة التجريد كالعدل و الحق و الخير و الحرية .. فأين حوافز
الجوع و الجنس هنا ؟ .. و المحارب المقاتل في الميدان الذي يضحي
بنفسه على مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد .. أين هو من التفسير
المادي ؟ إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس و الذات حقيقة متجاوزة و عالية
على الجسد ة ليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة
داخلية .
تلك الإدارة الهائلة التي تدوس على الجسد و تضحي به هي حقيقة
متجاوزة عالية بطبيعتها و آمرة و مهيمنة على الجسد و ليست للجسد
تبع ا و ذي لا .
و إذا كنت أنا الجسد فكيف أتحكم في الجسد و أخضعه ؟
و إذا كنت أنا الجوع فكيف أتحكم في الجوع ؟
إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد و مفردات الغرائز هي
الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي و المفارق الذي تتألف منه
الذات الإنسانية .
عن طريق النفس أتحكم في الجسد .
و عن طريق العقل أتحكم في النفس .
و عن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده .
هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه و يحكمه هو الإثبات الواقعي الذي
يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد و حاكمة عليه و ليست
ذي لا و تابع ا تموت بموته .
و الذي يقول إن الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير عليه أن
يفسر لنا أين يذهب ذلك الإنسان في لحظة النوم .
إن جميع الوظائف الفسيولوجية قائمة و مستمرة في أثناء النوم . و جميع
الأفعال المنعكسة و اللاإدارية تحدث بانتظام . فالقلب يدق و ال ن فس يتردد
و الغدد تفرز و الأحشاء تتلوى و الأعضاء التناسلية تهتاج و الذراع ينقبض
لش كة الدبوس .. ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة .. مجرد
شجرة .. أو حياة بدائية لا تختلف عن الحياة الحشرية . فأين الإنسان ؟
إن النوم ثم اليقظة و هو النموذج المصغر للموت ثم البعث , يكشف لنا مرة
أخرى عن ذلك العنصر المتعالي الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة
فجأة و بلا مقدمات هتلر أو نيرون فإذا بذلك الممد كالثور الهامد يصحو
ليقتل و يغزو و يسحق و يمحق و إن الفرق لهائل أكبر من أن يفسر بتغير
مادي يتم في لحظات .
و الماد يون يقولون إن النفس حقيقة موضوعية و بالتالي هي مادة .
و نحن نسأل كيف تكون النفس موضوع ا ؟ و موضوع بالنسبة لمن .. ؟
موضوع بالنسبة للآخرين ؟ و كيف ؟! و الآخرون لا يرونها و لا يدركون
وجودها إلا استنباط ا من ظواهر السلوك .. و هي ظواهر أغلبها كاذب ..
فكل م نا يمثل على الناس بل يمثل على نفسه و سلوكه الظاهر قلما يدل
عليه .
أم هي موضوع بالنسبة لصاحبها ؟
و كل منا لو اتخذ نفسه موضوع ا فإنها تبرد و تستحيل تحت مشرط التحليل
إلى جثة , و تستخفي و تهرب من يديه لأنها لا يمكن أن تكون موضوع ا و لا
أن توضع تحت مجهر مثل ورقة شجرة , لأن جوهرها بالدرجة الأولى في
ذاتيتها , و حقيقتها أنها الوجه الآخر من الصورة فهي الذات في مقابل
الجسد إلى هو موضوع .. و كلا القطبين الذات و الموضوع هما وجها
الحقيقة .. فإذا ع رفنا المادة بأنها كل ما هو موضوعي فلا بد من الاعتراف
بأن هناك في الوجود شيئ ا آخر غير المادة هو الوجه الآخر من الحقيقة
الذي هو الذات .
و تقودنا عملية الإدراك إلى إثبات أكيد بأن هناك شيئين في كل لحظة ..
الشيء المدرك و النفس المدركة خارجه .
و ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على
عتبة منفصلة و خارجة عن هذا المرور الزمني المستمر .
و لو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك
هذه الثواني أبد ا .. و لا نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ
شيئ ا و إنه لقانون معروف إن الحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها .
لا يمكن أن تدرك الحركة و أنت تتحرك معها في الفلك نفسه .. و إنما لا بد
لك من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها .. و لهذا تأتي عليك لحظة و أنت
في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك لأنك
أصبحت قطعة واحدة معه في حركته .. لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا
إذا نظرت من باب الأسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج .
و بالمثل لا يمكنك رصد الشمس و أنت فوقها و لكن يمكنك رصدها من
القمر أو الأرض .. كما أنه لا يمكنك رصد الأرض و أنت تسكن عليها و إنما
تستطيع رصدها من القمر .
و هكذا دائم ا .. لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها (.......)
و أنت تدرك مرور الزمن لا بد أن تكون ذاتك المدركة خارج الزمن . و هي
نتيجة مذهلة تثبت لنا الروح أو الذات المدركة كوجود مستقل متعال على
الزمن و متجاوز له و خارج عنه .
فها نحن أولاء أمام حقيقة إنسانية جزء منها غارق في الزمن ينصرم مع
الزمن و يكبر معه و يشيخ معه و يهرم معه ( و هو الجسد ) و جزء منها
خارج عن هذا الزمن يلاحظ همن عتبة السكون و يدركه دون أن يتورط فيه
و لهذا فهو لا يكبر و لا يشيخ و لا يهرم و لا ينصرم .. و يوم يسقط الجسد
تراب ا سوف يظل هو على حاله ح ي ا حياته الخاصة غير الزمنية .. و لا نجد
لهذا الجزء اسم ا غير الاسم الذي أطلقته الأديان و هو الروح .
و كل منا يستطيع أن يلمس هذا الوجود الروحي بداخله .. و يدرك انه وجود
مغاير في نوعيته للوجود الخارجي النابض المتغير الذي يتدفق حولنا في
شلال من التغيرات .
كل منا يستطيع أن يحس بداخله حالة حضور و ديمومة و امتثال و شخوص
و كينونة حاضرة دائم ا و مغايرة تمام ا للوجود المادي المتغير المتقلب
النابض مع الزمن خارجه .
هذه هي الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الداخلي و التي
أسميتها حالة ((حضور)) .. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي
بداخلنا و يضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح .. أو المطلق .. أو
المجرد .
و نحن حينما ندرك الجمال و نميزه من القبح و ندرك الحق و نميزه من
الباطل و ندرك العدل و نميزه من الظلم .. فنحن في كل مرة نقيس بمعيار
كلنا من أصل واحد ..
من خامة واحدة .
و لكن لكل منا فرديته الخاصة به .
و الفرق بين مخلوق و مخلوق ليس مج رد فرق كمي في الذرات , و إنما
هناك فرق أكبر و أعقد في العلاقات بين تلك الذرات و في كيفيات الترابط
بينها .
و نعلم الآن من أمر توليف الجينات الوراثية في الخلية الأولى أن جميع
الأجنة الآدمية يتم توليفها من أكثر من عشرين حرف ا كيميائي ا من بروتين
كما تتألف جميع الكتب و المؤلفات من الحروف الأبجدية , RNA و DNA
فيكون لكل كتاب روحه و شخصيته و نوعيته كمخلوق مستقل متفرد مع أن
جميع الكتب مؤلفة من الحروف نفسها .
و يبلغ هذا التفرد لدرجة أن ينفرد كل واحد ببصمة خاصة مختلفة . لا
تتشابه بصمتان لاثنين و لو كانا توأمين منذ بدء الخليقة إلى الآن برغم آلاف
آلاف و ملايين ملايين الملايين من الأفراد .
و نعلم الآن أن لكل جسد شفرة كيميائية خاصة به بحيث يصبح من
العسير و أحيان ا من المستحيل ترقيع جس د بقطع ة من جسد آخر .. فما
يلبث أن يرفض الجسد الرقعة الغريبة كما لو كانت ميكروب ا أو جسم ا أجنبي ا
أو استعمار ا و هذه هي كبرى المشكلات في جراحات الترقيع و نقل
الأعضاء .
و أطول مدة عاشها قلب منقول كانت عشرين شهر ا و تحت مطر مستمر
من حقن التخدير و الأقراص المضادة للحساسية لمنع الجسد من رفض
العضو الغريب .
و معنى هذا أن الفردية و التفرد حقيقة جوهرية يشهد بها العلم .. و هي
حقيقة لم التفت إليها في بداية تطوري الفكري .. و اعتقدت بأن الجوهري
و الباقي هو المجتمع و ليس الفرد .. الإنسان و ليس فلان ا , و الحياة و
ليس الأحياء .. الوجود لا الموجودات , الكل و ليس الآحاد .
و هذا أثر من آثار فلسفة وحدة الوجود الهندية القائلة إن الوجود هو الله و
و المايا هي الوهم الزائل . و MAYA هو الباقي أما جميع الموجودات فهي
كل فرد مصيره إلى فناء حقيقي لا بعث بعده , و اعتقدت بأن خلود الفرد
هو بقدر ما يترك لأولاده من توجيه و تربية و علوم و معارف .
أما هو ذاته فإنه ينتهي إلى التراب إلى غير عودة .
نصيبنا من الخلود هو ما نضيفه إلى وعاء الكل .
أما شخوصنا و أفردنا فمصيرها إلى العدم .
و ما الشخصية ؟!
لم أفهم من الشخصية قي البداية أكثر من أنها ردود فعل ظرفية على
مواقف مؤقتة . و بالتالي حينما تنتهي هذه الظروف و تتغ ير الأوقات لا يبقى
من الشخصية شيء .. و مآلها أن تتفكك بالشيخوخة نتيجة تفكك ألياف
الترابط الموجودة بالمخ و حين تفسد الأعصاب و تفنى بالموت تفنى الذات
الخاصة بها .
اعتقدت أن الشخصية ليست سوى انفصال محدد لصفات معينة بتأثير
تجارب حية و أفعال منعكسة عصبية .. بعضها موروث في شكل غرائز و
بعضها مكتسب عن طريق الممارسة الحسية .. و هذه الممارسة تسجل
في المخ و تنطبع على الذاكرة . فإذا انتهى المخ و تعفنت خلايا الذاكرة فلا
محل لافتراض بقاء آخر روحاني لهذا الترابط المادي البحت .
بهذا الفهم المادي المسطح تصورت الإنسان في البداية , و كنت أقول
لنفسي إن الشخصية ليست شيئ ا واحد ا و إنما هي سيل من الشخصيات
المختلفة لا تنقطع عن الجريان .. فشخصيتي في سن العاشرة غيرها في
سن العشرين غيرها في سن الثلاثين .. و في كل لحظة هناك شيء
يضاف إلى نفسي و شيء ينقص منها .. فأية واحدة من هذه النفوس
سوف تبعث و تعاقب ؟
و هؤلاء المصابون بانقسام الشخصية أيهما سوف يذهب إلى العالم الآخر
الدكتور جيكل أم مستر هايد ؟
و نسيت بهذا التلاعب اللفظي الحقيقة الأولية البسيطة أننا حينما نطبع
من الكتاب طبعة ثانية فإننا لا نطبع صفح ة أو فص لا , و إنما نطبعه كله في
أصوله ليصدر ك له في أصوله .
و هكذا يكون بعث الروح ككل بكل فصولها و أصولها كما تنبت البذرة من
ظلام الأرض حاوية لكل إمكانيات الفروع و الأوراق و الثمار .
و لكن النظرة المادية التي تميل بطبيعتها إلى التحليل و التشريح و
التقطيع كانت هي الغالبة طول الوقت و لهذا كانت تغيب عني دائم ا صورة
الأمور في كليتها و كنت أتصور أني يمكن أن أفهم الروح إذا شرحت الجسد
إذ لا فرق بين الاثنين
الروح هي البدن
و العقل هو المخ
و الشخصية هي ردود الفعل و مجموع الأفعال المنعكسة
و العاطفة في نهاية الأمر جوع جسماني .
و نقف الآن وقفة طويلة لنسأل : هل صحيح أن النفس ما هي إلا مجرد
حوافز الجوع و الجنس و مجموعة الاستشعارات التي يدرك بها الجسد ما
يحتاجه ؟
لو قلنا هذا فنحن أمام تفسير مادي متهافت فما هكذا حقيقة النفس و لا
حقيقة الإنسان .. و أعود إلى صفحات كتاب لغز الموت و لغز الحياة حيث
ناقشت الموضوع بالتفصيل .
إن الإنسان ليضحي بلقمته و بيته و فراشه الدافئ في سبيل أهداف و
مثل و غايات شديدة التجريد كالعدل و الحق و الخير و الحرية .. فأين حوافز
الجوع و الجنس هنا ؟ .. و المحارب المقاتل في الميدان الذي يضحي
بنفسه على مدفعه في سبيل غد لم يأت بعد .. أين هو من التفسير
المادي ؟ إننا أمام إثبات قاطع بأن النفس و الذات حقيقة متجاوزة و عالية
على الجسد ة ليست مجرد احتياجات الجسد الحسية معكوسة في مرآة
داخلية .
تلك الإدارة الهائلة التي تدوس على الجسد و تضحي به هي حقيقة
متجاوزة عالية بطبيعتها و آمرة و مهيمنة على الجسد و ليست للجسد
تبع ا و ذي لا .
و إذا كنت أنا الجسد فكيف أتحكم في الجسد و أخضعه ؟
و إذا كنت أنا الجوع فكيف أتحكم في الجوع ؟
إن مجرد الهيمنة الداخلية على جميع عناصر الجسد و مفردات الغرائز هي
الشهادة الكاشفة عن ذلك العنصر المتعالي و المفارق الذي تتألف منه
الذات الإنسانية .
عن طريق النفس أتحكم في الجسد .
و عن طريق العقل أتحكم في النفس .
و عن طريق البصيرة أضع للعقل حدوده .
هذا التفاضل بين وجود ووجود يعلو عليه و يحكمه هو الإثبات الواقعي الذي
يقودنا إلى الروح كحقيقة عالية متجاوزة للجسد و حاكمة عليه و ليست
ذي لا و تابع ا تموت بموته .
و الذي يقول إن الإنسان مجموعة وظائف فسيولوجية مادية لا غير عليه أن
يفسر لنا أين يذهب ذلك الإنسان في لحظة النوم .
إن جميع الوظائف الفسيولوجية قائمة و مستمرة في أثناء النوم . و جميع
الأفعال المنعكسة و اللاإدارية تحدث بانتظام . فالقلب يدق و ال ن فس يتردد
و الغدد تفرز و الأحشاء تتلوى و الأعضاء التناسلية تهتاج و الذراع ينقبض
لش كة الدبوس .. ومع ذلك فنحن أمام رجل نائم أشبه بشجرة .. مجرد
شجرة .. أو حياة بدائية لا تختلف عن الحياة الحشرية . فأين الإنسان ؟
إن النوم ثم اليقظة و هو النموذج المصغر للموت ثم البعث , يكشف لنا مرة
أخرى عن ذلك العنصر المتعالي الذي يخلق بحضوره في تلك الجثة النائمة
فجأة و بلا مقدمات هتلر أو نيرون فإذا بذلك الممد كالثور الهامد يصحو
ليقتل و يغزو و يسحق و يمحق و إن الفرق لهائل أكبر من أن يفسر بتغير
مادي يتم في لحظات .
و الماد يون يقولون إن النفس حقيقة موضوعية و بالتالي هي مادة .
و نحن نسأل كيف تكون النفس موضوع ا ؟ و موضوع بالنسبة لمن .. ؟
موضوع بالنسبة للآخرين ؟ و كيف ؟! و الآخرون لا يرونها و لا يدركون
وجودها إلا استنباط ا من ظواهر السلوك .. و هي ظواهر أغلبها كاذب ..
فكل م نا يمثل على الناس بل يمثل على نفسه و سلوكه الظاهر قلما يدل
عليه .
أم هي موضوع بالنسبة لصاحبها ؟
و كل منا لو اتخذ نفسه موضوع ا فإنها تبرد و تستحيل تحت مشرط التحليل
إلى جثة , و تستخفي و تهرب من يديه لأنها لا يمكن أن تكون موضوع ا و لا
أن توضع تحت مجهر مثل ورقة شجرة , لأن جوهرها بالدرجة الأولى في
ذاتيتها , و حقيقتها أنها الوجه الآخر من الصورة فهي الذات في مقابل
الجسد إلى هو موضوع .. و كلا القطبين الذات و الموضوع هما وجها
الحقيقة .. فإذا ع رفنا المادة بأنها كل ما هو موضوعي فلا بد من الاعتراف
بأن هناك في الوجود شيئ ا آخر غير المادة هو الوجه الآخر من الحقيقة
الذي هو الذات .
و تقودنا عملية الإدراك إلى إثبات أكيد بأن هناك شيئين في كل لحظة ..
الشيء المدرك و النفس المدركة خارجه .
و ما كنا نستطيع إدراك مرور الزمن لولا أن الجزء المدرك فينا يقف على
عتبة منفصلة و خارجة عن هذا المرور الزمني المستمر .
و لو كان إدراكنا يقفز مع عقرب الثواني كل لحظة لما استطعنا أن ندرك
هذه الثواني أبد ا .. و لا نصرم إدراكنا كما تنصرم الثواني بدون أن يلاحظ
شيئ ا و إنه لقانون معروف إن الحركة لا يمكن رصدها إلا من خارجها .
لا يمكن أن تدرك الحركة و أنت تتحرك معها في الفلك نفسه .. و إنما لا بد
لك من عتبة خارجية تقف عليها لترصدها .. و لهذا تأتي عليك لحظة و أنت
في أسانسير متحرك لا تستطيع أن تعرف هل هو واقف أم متحرك لأنك
أصبحت قطعة واحدة معه في حركته .. لا تستطيع إدراك هذه الحركة إلا
إذا نظرت من باب الأسانسير إلى الرصيف الثابت في الخارج .
و بالمثل لا يمكنك رصد الشمس و أنت فوقها و لكن يمكنك رصدها من
القمر أو الأرض .. كما أنه لا يمكنك رصد الأرض و أنت تسكن عليها و إنما
تستطيع رصدها من القمر .
و هكذا دائم ا .. لا تستطيع أن تحيط بحالة إلا إذا خرجت خارجها (.......)
و أنت تدرك مرور الزمن لا بد أن تكون ذاتك المدركة خارج الزمن . و هي
نتيجة مذهلة تثبت لنا الروح أو الذات المدركة كوجود مستقل متعال على
الزمن و متجاوز له و خارج عنه .
فها نحن أولاء أمام حقيقة إنسانية جزء منها غارق في الزمن ينصرم مع
الزمن و يكبر معه و يشيخ معه و يهرم معه ( و هو الجسد ) و جزء منها
خارج عن هذا الزمن يلاحظ همن عتبة السكون و يدركه دون أن يتورط فيه
و لهذا فهو لا يكبر و لا يشيخ و لا يهرم و لا ينصرم .. و يوم يسقط الجسد
تراب ا سوف يظل هو على حاله ح ي ا حياته الخاصة غير الزمنية .. و لا نجد
لهذا الجزء اسم ا غير الاسم الذي أطلقته الأديان و هو الروح .
و كل منا يستطيع أن يلمس هذا الوجود الروحي بداخله .. و يدرك انه وجود
مغاير في نوعيته للوجود الخارجي النابض المتغير الذي يتدفق حولنا في
شلال من التغيرات .
كل منا يستطيع أن يحس بداخله حالة حضور و ديمومة و امتثال و شخوص
و كينونة حاضرة دائم ا و مغايرة تمام ا للوجود المادي المتغير المتقلب
النابض مع الزمن خارجه .
هذه هي الحالة الداخلية التي ندركها في لحظات الصحو الداخلي و التي
أسميتها حالة ((حضور)) .. هي المفتاح الذي يقودنا إلى الوجود الروحي
بداخلنا و يضع يدنا على هذا اللغز الذي اسمه الروح .. أو المطلق .. أو
المجرد .
و نحن حينما ندرك الجمال و نميزه من القبح و ندرك الحق و نميزه من
الباطل و ندرك العدل و نميزه من الظلم .. فنحن في كل مرة نقيس بمعيار
الجسد الجزء الثانى
كتاب رحلتي من الشك إلى الإيمان - مصطفى محمود
محتوى الكتاب :
No comments:
Post a Comment